سورة النور - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


السورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة، ولذلك سميت السورة من القرآن سورة، ومنه قول النابغة:
ألم تر أن الله أعطاك سورة *** ترى كل ملك دونها يتذبذب
أي منزلة. قرأ الجمهور {سورة} بالرفع وفيه وجهان: أحدهما: أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف أي هذه سورة، ورجحه الزجاج، والفراء، والمبرد، قالوا: لأنها نكرة، ولا يبتدأ بالنكرة في كل موضع. والوجه الثاني أن يكون مبتدأ وجاز الابتداء بالنكرة لكونها موصوفة بقوله: {أنزلناها} والخبر {الزانية والزاني} ويكون المعنى: السورة المنزلة المفروضة كذا وكذا، إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها مبدأ ومختم، وهذا معنى صحيح، ولا وجه لما قاله الأولون من تعليل المنع من الابتداء بها كونها نكرة فهي نكرة مخصصة بالصفة، وهو مجمع على جواز الابتداء بها. وقيل: هي مبتدأ محذوف الخبر على تقدير: فيما أوحينا إليك سورة، وردّ بأن مقتضى المقام ببيان شأن هذه السورة الكريمة، لابيان أن في جملة ما أوحي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم سورة شأنها كذا وكذا. وقرأ الحسن بن عبد العزيز، وعيسى الثقفي، وعيسى الكوفي، ومجاهد، وأبو حيوة، وطلحة بن مصرف بالنصب، وفيه أوجه: الأوّل أنها منصوبة بفعل مقدّر غير مفسر بما بعده، تقديره اتل سورة، أو اقرأ سورة. والثاني أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره ما بعده على ما قيل في باب اشتغال الفعل عن الفاعل بضميره أي أنزلنا سورة أنزلناها، فلا محل ل {أنزلناها} هاهنا؛ لأنها جملة مفسرة، بخلاف الوجه الذي قبله، فإنها في محل نصب على أنها صفة لسورة. الوجه الثالث: أنها منصوبة على الإغراء أي: دونك سورة، قاله صاحب الكشّاف. ورده أبو حيان بأنه لا يجوز حذف أداة الإغراء. الرابع: أنها منصوبة على الحال من ضمير {أنزلناها}، قال الفراء: هي حال من الهاء، والألف، والحال من المكنى يجوز أن تتقدّم عليه، وعلى هذا فالضمير في {أنزلناها} ليس عائداً على {سورة}، بل على الأحكام، كأنه قيل: أنزلنا الأحكام حال كونها سورة من سور القرآن. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو {وفرّضناها} بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف. قال أبو عمرو: فرّضناها بالتشديد أي: قطعناها في الإنزال نجماً نجماً، والفرض القطع، ويجوز أن يكون التشديد للتكثير، أو للمبالغة، ومعنى التخفيف: أوجبناها، وجعلناها مقطوعاً بها، وقيل: ألزمناكم العمل بها، وقيل: قدّرنا ما فيها من الحدود، والفرض: التقدير، ومنه {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرءان} [القصص: 85].
{وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَات} أي: أنزلنا في غضونها وتضاعيفها، ومعنى كونها بينات: أنها واضحة الدلالة على مدلولها، وتكرير {أنزلنا} لكمال العناية بإنزال هذه السورة، لما اشتملت عليه من الأحكام.
{الزانية والزاني}: هذا شروع في تفصيل ما أجمل من الآيات البينات، والارتفاع على الابتداء، والخبر: {فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا}، أو على الخبرية لسورة كما تقدّم، والزنا هو: وطء الرجل للمرأة في فرجها من غير نكاح، ولا شبهة نكاح.
وقيل: هو إيلاج فرج في فرج مشتهىً طبعاً محرّم شرعاً، والزانية هي: المرأة المطاوعة للزنا الممكنة منه كما تنبئ عنه الصيغة لا المكرهة، وكذلك الزاني، ودخول الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط على مذهب الأخفش، وأما على مذهب سيبويه فالخبر محذوف، والتقدير: فيما يتلى عليكم حكم الزانية، ثم بين ذلك بقوله: {فاجلدوا} والجلد الضرب، يقال: جلده إذا ضرب جلده، مثل بطنه إذا ضرب بطنه، ورأسه إذا ضرب رأسه، وقوله: {مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} هو حدّ الزاني الحر البالغ البكر، وكذلك الزانية، وثبت بالسنة زيادة على هذا الجلد، وهي: تغريب عام، وأما المملوك، والمملوكة، فجلد كلّ واحد منهما خمسون جلدة لقوله سبحانه: {فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] وهذا نص في الإماء، وألحق بهنّ العبيد لعدم الفارق، وأما من كان محصناً من الأحرار، فعليه الرجم بالسنة الصحيحة المتواترة، وبإجماع أهل العلم، بل وبالقرآن المنسوخ لفظه الباقي حكمه وهو: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة». وزاد جماعة من أهل العلم مع الرجم جلد مائة، وقد أوضحنا ما هو الحق في ذلك في شرحنا للمنتقى، وقد مضى الكلام في حدّ الزنا مستوفى، وهذه الآية ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة النساء. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي، ويحيى بن يعمر، وأبو جعفر، وأبو شيبة {الزانية والزاني} بالنصب. وقيل: وهو القياس عند سيبويه؛ لأنه عنده كقولك: زيداً اضرب. وأما الفرّاء، والمبرّد، والزجاج، فالرفع عندهم أوجه وبه قرأ الجمهور. ووجه تقديم الزانية على الزاني هاهنا أن الزنا في ذلك الزمان كان في النساء أكثر حتى كان لهنّ رايات تنصب على أبوابهنّ ليعرفهنّ من أراد الفاحشة منهنّ. وقيل: وجه التقديم أن المرأة هي الأصل في الفعل، وقيل: لأن الشهوة فيها أكثر، وعليها أغلب، وقيل: لأن العار فيهنّ أكثر إذ موضوعهنّ الحجبة، والصيانة، فقدّم ذكر الزانية تغليظاً، واهتماماً. والخطاب في هذه الآية للأئمة ومن قام مقامهم، وقيل: للمسلمين أجمعين، لأن إقامة الحدود واجبة عليهم جميعاً، والإمام ينوب عنهم، إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود.
{وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} يقال: رأف رأفة على وزن فعلة، ورآفة على وزن فعالة، مثل النشأة، والنشاءة وكلاهما بمعنى: الرقة، والرحمة، وقيل: هي أرق الرحمة. وقرأ الجمهور {رأفة} بسكون الهمزة، وقرأ ابن كثير بفتحها، وقرأ ابن جريج {رآفة} بالمد كفعالة، ومعنى: {في دين الله}: في طاعته، وحكمه، كما في قوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك}
[يوسف: 76]، ثم قال: مثبتاً للمأمورين ومهيجاً لهم: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} كما تقول للرجل تحضه على أمر: إن كنت رجلاً فافعل كذا أي: إن كنتم تصدّقون بالتوحيد، والبعث الذي فيه جزاء الأعمال فلا تعطلوا الحدود {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ المؤمنين} أي: ليحضره زيادة في التنكيل بهما، وشيوع العار عليهما، وإشهار فضيحتهما، والطائفة الفرقة التي تكون حافة حول الشيء، من الطوف، وأقلّ الطائفة ثلاثة، وقيل: اثنان، وقيل: واحد، وقيل: أربعة، وقيل: عشرة.
ثم ذكر سبحانه شيئاً يختص بالزاني، والزانية، فقال: {الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}.
قد اختلف أهل العلم في معنى هذه الآية على أقوال: الأوّل: أن المقصود منها تشنيع الزنا، وتشنيع أهله، وأنه محرّم على المؤمنين، ويكون معنى الزاني لا ينكح: الوطء لا العقد أي: الزاني لا يزني إلاّ بزانية، والزانية لا تزني إلاّ بزانٍ، وزاد ذكر المشركة والمشرك لكون الشرك أعمّ في المعاصي من الزنا. وردّ هذا الزجاج وقال: لا يعرف النكاح في كتاب الله إلاّ بمعنى التزويج، ويردّ هذا الردّ بأن النكاح بمعنى الوطء ثابت في كتاب الله سبحانه، ومنه قوله: {حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فقد بينه النبيّ صلى الله عليه وسلم، بأن المراد به: الوطء، ومن جملة القائلين بأن معنى الزاني لا ينكح إلاّ زانية: الزاني لا يزني إلا بزانية سعيد بن جبير، وابن عباس، وعكرمة، كما حكاه ابن جرير عنهم، وحكاه الخطابي عن ابن عباس. القول الثاني: أن الآية هذه نزلت في امرأة خاصة كما سيأتي بيانه فتكون خاصة بها كما قاله الخطابي. القول الثالث: أنها نزلت في رجل من المسلمين، فتكون خاصة به قاله مجاهد. الرابع: أنها نزلت في أهل الصفة، فتكون خاصة بهم قاله أبو صالح. الخامس: أن المراد بالزاني والزانية: المحدودان حكاه الزجاج، وغيره عن الحسن قال: وهذا حكم من الله، فلا يجوز لزان محدود أن يتزوّج إلاّ محدودة.
وروي نحوه عن إبراهيم النخعي، وبه قال بعض أصحاب الشافعي. قال ابن العربي: وهذا معنى لا يصح نظراً كما لم يثبت نقلاً. السادس: أن الآية هذه منسوخة بقوله سبحانه: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مّنكُمْ} قال النحاس: وهذا القول عليه أكثر العلماء. القول السابع: أن هذا الحكم مؤسس على الغالب، والمعنى: أن غالب الزناة لا يرغب إلاّ في الزواج بزانية مثله، وغالب الزواني لا يرغبن إلاّ في الزواج بزانٍ مثلهن، والمقصود زجر المؤمنين عن نكاح الزواني بعد زجرهم عن الزنا، وهذا أرجح الأقوال، وسبب النزول يشهد له كما سيأتي.
وقد اختلف في جواز تزوّج الرجل بامرأة قد زنى هو بها، فقال الشافعي، وأبو حنيفة: بجواز ذلك.
وروي عن ابن عباس، وروي عن عمر، وابن مسعود، وجابر: أنه لا يجوز.
قال ابن مسعود: إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبداً، وبه قال مالك، ومعنى {وَحُرّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} أي: نكاح الزواني، لما فيه من التشبه بالفسقة، والتعرّض للتهمة، والطعن في النسب. وقيل: هو مكروه فقط، وعبر بالتحريم عن كراهة التنزيه مبالغة في الزجر.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {سُورَةٌ أنزلناها وفرضناها} قال: بيناها.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عمر: أن جارية لابن عمر زنت فضرب رجليها وظهرها، فقلت: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ الله} قال: يا بنيّ ورأيتني أخذتني بها رأفة؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها، ولا أن أجلد رأسها، وقد أوجعت حيث ضربت.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. عن ابن عباس {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ المؤمنين} قال: الطائفة الرجل فما فوقه.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، والضياء المقدسي في المختارة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {الزاني لاَ يَنكِحُ} قال: ليس هذا بالنكاح، ولكن الجماع، لا يزني بها حين يزني إلاّ زانٍ، أو مشرك {وَحُرّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} يعني: الزنا.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، عن مجاهد في قوله: {الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} قال: كنّ نساء في الجاهلية بغيات، فكانت منهنّ امرأة جميلة تدعى أمّ جميل، فكان الرجل من المسلمين يتزّوج إحداهنّ لتنفق عليه من كسبها، فنهى الله سبحانه أن يتزوّجهنّ أحد من المسلمين، وهو مرسل.
وأخرج عبد بن حميد، عن سليمان بن يسار نحوه مختصراً.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن عطاء، عن ابن عباس قال: كانت بغايا آل فلان، وبغايا آل فلان، فقال الله {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} الآية، فأحكم الله ذلك في أمر الجاهلية، وروى نحو هذا عن جماعة من التابعين.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، عن الضحاك في الآية قال: إنما عنى بذلك الزنا، ولم يعن به التزويج.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن سعيد بن جبير نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة، عن عكرمة نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس في هذه الآية قال: الزاني من أهل القبلة لا يزني إلاّ بزانية مثله من أهل القبلة، أو مشركة من غير أهل القبلة، والزانية من أهل القبلة لا تزني إلاّ بزانٍ مثلها من أهل القبلة، أو مشرك من غير أهل القبلة، وحرّم الزنا على المؤمنين.
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن عبد الله بن عمرو قال: كانت امرأة يقال لها: أمّ مهزول، وكانت تسافح، وتشترط أن تنفق عليه، فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّجها، فأنزل الله: {الزانية لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال: كان رجل يقال له: مرثد، يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، وكانت امرأة بغيّ بمكة يقال لها: عناق، وكانت صديقة له، وذكر قصة وفيها: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أنكح عناقاً؟، فلم يرد عليّ شيئاً حتى نزلت: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا مرثد {الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} فلا تنكحها».
وأخرج ابن جرير، عن عبد الله بن عمرو في الآية قال: كنّ نساء معلومات، فكان الرجل من فقراء المسلمين يتزوّج المرأة منهنّ لتنفق عليه، فنهاهم الله عن ذلك.
وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن عباس: أنها نزلت في بغايا معلنات كنّ في الجاهلية وكنّ زواني مشركات، فحرّم الله نكاحهنّ على المؤمنين.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق شعبة مولى ابن عباس قال: كنت مع ابن عباس، فأتاه رجل، فقال: إني كنت أتبع امرأة، فأصبت منها ما حرّم الله عليّ، وقد رزقني الله منها توبة، فأردت أن أتزوّجها، فقال الناس: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}، فقال ابن عباس: ليس هذا موضع هذه الآية، إنما كنّ نساء بغايا متعالنات يجعلن على أبوابهنّ رايات يأتيهنّ الناس يعرفن بذلك، فأنزل الله هذه الآية، تزوّجها فما كان فيها من إثم فعلىّ.
وأخرج أبو داود، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عديّ، وابن مردويه، والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينكح الزاني المجلود إلاّ مثله».
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب: أن رجلاً تزوّج امرأة، ثم إنه زنى فأقيم عليه الحدّ، فجاءوا به إلى عليّ ففرق بينه وبين امرأته، وقال: لا تتزوّج إلاّ مجلودة مثلك.


قوله: {والذين يَرْمُونَ} استعار الرمي للشتم بفاحشة الزنا؛ لكونه جناية بالقول كما قال النابغة:
وجرح اللسان كجرح اليد ***
وقال آخر:
رماني بأمر كنت عنه ووالدي *** برياً ومن أجل الطوى رماني
ويسمى هذا الشتم بهذه الفاحشة الخاصة قذفاً، والمراد بالمحصنات النساء، وخصهنّ بالذكر لأن قذفهنّ أشنع، والعار فيهنّ أعظم، ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بلا خلاف بين علماء هذه الأمة، وقد جمعنا في ذلك رسالة رددنا بها على بعض المتأخرين من علماء القرن الحادي عشر لما نازع في ذلك. وقيل: إن الآية تعمّ الرجال، والنساء، والتقدير: والأنفس المحصنات، ويؤيد هذا قوله تعالى في آية أخرى: {والمحصنات مِنَ النساء} [النساء: 24] فإن البيان بكونهنّ من النساء يشعر بأن لفظ المحصنات يشمل غير النساء، وإلاّ لم يكن للبيان كثير معنى. وقيل: أراد بالمحصنات: الفروج كما قال: {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء: 91]. فتتناول الآية الرجال والنساء. وقيل: إن لفظ المحصنات، وإن كان للنساء لكنه هاهنا يشمل النساء والرجال تغليبا، وفيه أن تغليب النساء على الرجال غير معروف في لغة العرب، والمراد بالمحصنات هنا. العفائف، وقد مضى في سورة النساء ذكر الإحصان، وما يحتمله من المعاني. وللعلماء في الشروط المعتبرة في المقذوف والقاذف أبحاث مطوّلة مستوفاة في كتب الفقه، منها ما هو مأخوذ من دليل، ومنها ما هو مجرّد رأي بحت. قرأ الجمهور {والمحصنات} بفتح الصاد، وقرأ يحيى بن وثاب بكسرها.
وذهب الجمهور من العلماء: أنه لا حدّ على من قذف كافراً أو كافرة.
وقال الزهري، وسعيد بن المسيب، وابن أبي ليلى: إنه يجب عليه الحدّ.
وذهب الجمهور أيضاً: أن العبد يجلد أربعين جلدة.
وقال ابن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، وقبيصة: يجلد ثمانين. قال القرطبي: وأجمع العلماء على: أن الحرّ لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: «أن من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحدّ يوم القيامة إلاّ أن يكون كما قال». ثم ذكر سبحانه شرطاً لإقامة الحدّ على من قذف المحصنات فقال: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} أي: يشهدون عليهنّ بوقوع الزنا منهنّ، ولفظ ثم يدلّ على: أنه يجوز أن تكون شهادة الشهود في غير مجلس القذف، وبه قال الجمهور، وخالف في ذلك مالك، وظاهر الآية: أنه يجوز أن يكون الشهود مجتمعين ومفترقين، وخالف في ذلك الحسن، ومالك، وإذا لم تكمل الشهود أربعة كانوا قذفة يحدّون حدّ القذف.
وقال الحسن، والشعبي: إنه لا حدّ على الشهود ولا على المشهود عليه، وبه قال أحمد، وأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن. ويردّ ذلك ما وقع في خلافة عمر رضي الله عنه من جلده للثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بالزنا، ولم يخالف في ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم.
قرأ الجمهور: {بأربعة شهداء} بإضافة أربعة إلى شهداء، وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار، وأبو زرعة بن عمرو بتنوين أربعة.
وقد اختلف في إعراب شهداء على هذه القراءة، فقيل: هو تمييز. وردّ بأن المميز من ثلاثة إلى عشرة يضاف إليه العدد كما هو مقرّر في علم النحو. وقيل: إنه في محل نصب على الحال. وردّ بأن الحال لا يجيء من النكرة التي لم تخصص. وقيل: إن شهداء في محل جرّ نعتاً لأربعة، ولما كان فيه ألف التأنيث لم ينصرف.
وقال النحاس: يجوز أن يكون شهداء في موضع نصب على المفعولية أي: ثم لم يحضروا أربعة شهداء، وقد قوّى ابن جني هذه القراءة، ويدفع ذلك قول سيبويه: إن تنوين العدد، وترك إضافته إنما يجوز في الشعر.
ثم بين سبحانه ما يجب على القاذف فقال: {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الجلد: الضرب كما تقدّم، والمجالدة المضاربة في الجلود، أو بالجلود، ثم استعير للضرب بالعصى، والسيف، وغيرهما، ومنه قول قيس بن الخطيم:
أجالدهم يوم الحديقة حاسرا *** كأن يدي بالسيف مخراق لاعب
وقد تقدّم بيان الجلد قريباً، وانتصاب ثمانين كانتصاب المصادر، وجلدة منتصبة على التمييز، وجملة {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} معطوفة على {اجلدوا} أي: فاجمعوا لهم بين الأمرين: الجلد، وترك قبول الشهادة، لأنهم قد صاروا بالقذف غير عدول بل فسقة كما حكم الله به عليهم في آخر هذه الآية. واللام في لهم متعلقة بمحذوف هو: حال من شهادة ولو تأخرت عليها لكانت صفة لها، ومعنى {أَبَدًا}: ما داموا في الحياة. ثم بين سبحانه حكمهم بعد صدور القذف منهم، وإصرارهم عليه، وعدم رجوعهم إلى التوبة، فقال: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} وهذه جملة مستأنفة مقرّرة لما قبلها. والفسق: هو الخروج عن الطاعة، ومجاوزة الحدّ بالمعصية، وجوّز أبو البقاء أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال.
ثم بين سبحانه أن هذا التأييد لعدم قبول شهادتهم هو مع عدم التوبة فقال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} وهذه الجملة في محل نصب على الاستثناء، لأنه من موجب، وقيل: يجوز أن يكون في موضع خفض على البدل، ومعنى التوبة قد تقدّم تحقيقه، ومعنى {مِن بَعْدِ ذلك}: من بعد اقترافهم لذنب القذف، ومعنى {وَأَصْلَحُواْ}: إصلاح أعمالهم التي من جملتها ذنب القذف، ومداركة ذلك بالتوبة، والانقياد للحدّ.
وقد اختلف أهل العلم في هذا الاستثناء هل يرجع إلى الجملتين قبله؟ وهي: جملة عدم قبول الشهادة، وجملة الحكم عليهم بالفسق، أم إلى الجملة الأخيرة؟ وهذا الاختلاف بعد اتفاقهم على أنه لا يعود إلى جملة الجلد بل يجلد التائب كالمصرّ، وبعد إجماعهم أيضاً على أن هذا الاستثناء يرجع إلى جملة الحكم بالفسق، فحلّ الخلاف هل يرجع إلى جملة عدم قبول الشهادة أم لا؟، فقال الجمهور: إن هذا الاستثناء يرجع إلى الجملتين، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته، وزال عنه الفسق، لأن سبب ردّها هو ما كان متصفاً به من الفسق بسبب القذف، فإذا زال بالتوبة بالإجماع كانت الشهادة مقبولة.
وقال القاضي شريح، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، ومكحول، وعبد الرحمن بن زيد، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة: إن هذا الاستثناء يعود إلى جملة الحكم بالفسق، لا إلى جملة عدم قبول الشهادة، فيرتفع بالتوبة عن القاذف وصف الفسق، ولا تقبل شهادته أبداً.
وذهب الشعبي، والضحاك إلى التفصيل فقالا: لا تقبل شهادته، وإن تاب إلاّ أن يعترف على نفسه بأنه قد قال البهتان، فحينئذٍ تقبل شهادته. وقول الجمهور هو الحق، لأن تخصيص التقييد بالجملة الأخيرة دون ما قبلها مع كون الكلام واحداً في واقعة شرعية من متكلم واحد خلاف ما تقتضيه لغة العرب، وأولوية الجملة الأخيرة المتصلة بالقيد بكونه قيداً لها لا تنفي كونه قيداً لما قبلها، غاية الأمر، أن تقييد الأخيرة بالقيد المتصل بها أظهر من تقييد ما قبلها به، ولهذا كان مجمعاً عليه، وكونه أظهر لا ينافي قوله فيما قبلها ظاهراً.
وقد أطال أهل الأصول الكلام في القيد الواقع بعد جمل بما هو معروف عند من يعرف ذلك الفنّ، والحق هو هذا، والاحتجاج بما وقع تارة من القيود عائداً إلى جميع الجمل التي قبله، وتارة إلى بعضها لا تقوم به حجة، ولا يصلح للاستدلال، فإنه قد يكون ذلك لدليل كما وقع هنا من الإجماع على عدم رجوع هذا الاستثناء إلى جملة الجلد. ومما يؤيد ما قررناه ويقوّيه أن المانع من قبول الشهادة، وهو الفسق المتسبب عن القذف قد زال، فلم يبق ما يوجب الردّ للشهادة.
واختلف العلماء في صورة توبة القاذف، فقال عمر ابن الخطاب، والشعبي، والضحاك، وأهل المدينة: إن توبته لا تكون إلاّ بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي وقع منه، وأقيم عليه الحدّ بسبببه. وقالت فرقة منهم مالك، وغيره: إن توبته تكون بأن يحسن حاله، ويصلح عمله، ويندم على ما فرط منه، ويستغفر الله من ذلك، ويعزم على ترك العود إلى مثله. وإن لم يكذب نفسه، ولا رجع عن قوله. ويؤيد هذا الآيات والأحاديث الواردة في التوبة، فإنها مطلقة غير مقيدة بمثل هذا القيد.
وقد أجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الذنب، ولو كان كفراً فتمحو ما هو دون الكفر بالأولى هكذا حكى الإجماع القرطبي. قال أبو عبيدة: الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة، وليس من رمى غيره بالزنا بأعظم جرماً من مرتكب الزنا، والزاني إذا تاب قبلت شهادته، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى، مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن منها قوله: {إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله} إلى قوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} [المائدة: 33 34]. ولا شك أن هذا الاستثناء يرجع إلى الجميع. قال الزجاج: وليس القاذف بأشدّ جرماً من الكافر، فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته، قال: وقوله: {أَبَدًا} أي: ما دام قاذفاً، كما يقال لا تقبل شهادة الكافر أبداً فإن معناه: ما دام كافراً. انتهى. وجملة {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تعليل لما تضمنه الاستثناء من عدم المؤاخدة للقاذف بعد التوبة، وصيرورته مغفوراً له، مرحوماً من الرحمن الرحيم، غير فاسق، ولا مردود الشهادة، ولا مرفوع العدالة.
ثم ذكر سبحانه بعد ذكره لحكم القذف على العموم حكم نوع من أنواع القذف، وهو قذف الزوج للمرأة التي تحته بعقد النكاح فقال: {والذين يَرْمُونَ أزواجهم وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} أي: لم يكن لهم شهداء يشهدون بما رموهنّ به من الزنا إلا أنفسهم بالرفع على البدل من شهداء. قيل: ويجوز النصب على خبر يكن. قال الزجاج: أو على الاستثناء على الوجه المرجوح {فشهادة أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهادات} قرأ الكوفيون برفع أربع على أنها خبر لقوله: {فشهادة أَحَدِهِمْ} أي: فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حدّ القذف أربع شهادات. وقرأ أهل المدينة، وأبو عمرو: {أربع} بالنصب على المصدر. ويكون {فشهادة أَحَدِهِمْ} خبر مبتدأ محذوف أي: فالواجب شهادة أحدهم، أو مبتدأ محذوف الخبر أي: فشهادة أحدهم واجبة. وقيل: إن أربع منصوب بتقدير: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات وقوله: {بالله} متعلق بشهادة أو بشهادات، وجملة {إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} هي المشهود به، وأصله على أنه، فحذف الجار وكسرت إن، وعلق العامل عنها.
{والخامسة} قرأ السبعة وغيرهم الخامسة بالرفع على الابتداء، وخبرها {أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكاذبين} وقرأ أبو عبد الرحمن، وطلحة، وعاصم في رواية حفص {والخامسة} بالنصب على معنى وتشهد الشهادة الخامسة، ومعنى {إِن كَانَ مِنَ الكاذبين} أي: فيما رماها به من الزنا. قرأ الجمهور بتشديد {أنّ} من قوله: {أَن لَّعْنَةَ الله} وقرأ نافع بتخفيفها، فعلى قراءة نافع يكون اسم أن ضمير الشأن، و{لعنة الله} مبتدأ، و{عليه} خبره، والجملة خبر أن، وعلى قراءة الجمهور تكون {لعنة الله} اسم أن، قال سيبويه: لا تخفف أنّ في الكلام، وبعدها الأسماء إلا وأنت تريد الثقيلة.
وقال الأخفش: لا أعلم الثقيلة إلاّ أجود في العربية.
{وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب} أي: عن المرأة، والمراد بالعذاب: الدنيوي، وهو الحدّ، وفاعل يدرأ قوله: {أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله} والمعنى: أنه يدفع عن المرأة الحدّ شهادتها أربع شهادات بالله: أن الزوج لَمِنَ الكاذبين {والخامسة} بالنصب عطفاً على أربع أي: وتشهد الخامسة، كذلك قرأ حفص، والحسن، والسلمي، وطلحة، والأعمش، وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء، وخبره {أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا إِن كَانَ} الزوج {مِنَ الصادقين} فيما رماها به من الزنا، وتخصيص الغضب بالمرأة للتغليظ عليها لكونها أصل الفجور ومادّته، ولأن النساء يكثرن اللعن في العادة، ومع استكثارهنّ منه لا يكون له في قلوبهنّ كبير موقع بخلاف الغضب.
{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} جواب لولا محذوف. قال الزجاج: المعنى: ولولا فضل الله لنال الكاذب منهما عذاب عظيم. ثم بين سبحانه كثير توبته على من تاب، وعظيم حكمته البالغة فقال: {وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ} أي: يعود على من تاب إليه، ورجع عن معاصيه بالتوبة عليه، والمغفرة له، حكيم فيما شرع لعباده من اللعان، وفرض عليهم من الحدود.
وقد أخرج أبو داود في ناسخه، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} قال: تاب الله عليهم من الفسوق، وأما الشهادة فلا تجوز.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، عن عمر ابن الخطاب، أنه قال لأبي بكرة: إن تبت قبلت شهادتك.
وأخرج ابن مردويه عنه قال: توبتهم إكذابهم أنفسهم، فإن أكذبوا أنفسهم قبلت شهادتهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: من تاب، وأصلح، فشهادته في كتاب الله تقبل. وفي الباب روايات عن التابعين. وقصة قذف المغيرة في خلافة عمر مروية من طرق معروفة.
وأخرج البخاري، والترمذي، وابن ماجه، عن ابن عباس: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البينة، وإلاّ حدّ في ظهرك»، فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «البينة وإلاّ حدّ في ظهرك»، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلنّ الله ما يبرئ ظهري من الحدّ، ونزل جبريل فأنزل عليه {والذين يَرْمُونَ أزواجهم} حتى بلغ {إِن كَانَ مِنَ الصادقين} فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما، فجاء هلال فشهد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟» ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها، وقالوا إنها موجبة، فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء» فجاءت به كذلك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن»، وأخرج هذه القصة أبو داود الطيالسي، وعبد الرزاق، وأحمد، وعبد بن حميد، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس مطوّلة.
وأخرجها البخاري، ومسلم، وغيرهما، ولم يسموا الرجل ولا المرأة. وفي آخر القصة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: «اذهب فلا سبيل لك عليها»، فقال: يا رسول الله مالي، قال: «لا مال لك، وإن كنت صدقت عليها، فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها، فذاك أبعد لك منها».
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن سهل بن سعد قال: جاء عويمر إلى عاصم بن عديّ، فقال: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلا فقتله، أيقتل به أم كيف يصنع؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم: فعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السائل، فقال عويمر: والله لآتينّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسألنه، فأتاه، فوجده قد أنزل عليه، فدعا بهما، فلاعن بينهما. قال عويمر: إن انطلقت بها يا رسول الله لقد كذبت عليها، ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصارت سنة للمتلاعنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبصروها، فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين، فلا أراه إلاّ قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة، فلا أراه إلاّ كاذباً»، فجاءت به مثل النعت المكروه. وفي الباب أحاديث كثيرة، وفيما ذكرنا كفاية.
وأخرج عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب، وعليّ، وابن مسعود، قالوا: لا يجتمع المتلاعنان أبداً.


خبر {إن} من قوله: {إِنَّ الذين جَاءُو بالإفك} هو: {عُصْبَةٌ}، و{مّنكُمْ} صفة لعصبة، وقيل: هو {لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ}، ويكون عصبة بدلا من فاعل جاءُوا. قال ابن عطية: وهذا أنسق في المعنى، وأكثر فائدة من أن يكون الخبر عصبة، وجملة {لا تحسبوه}، وإن كانت طلبية، فجعلها خبراً يصح بتقدير كما في نظائر ذلك، والإفك: أسوأ الكذب وأقبحه، وهو مأخوذ من أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه. فالإفك: هو الحديث المقلوب، وقيل: هو البهتان. وأجمع المسلمون على أن المراد بما في الآية: ما وقع من الإفك على عائشة أمّ المؤمنين، وإنما وصفه الله بأنه إفك؛ لأن المعروف من حالها رضي الله عنها خلاف ذلك، قال الواحدي: ومعنى القلب في هذا الحديث الذي جاء به أولئك النفر: أن عائشة رضي الله عنها كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة، وشرف النسب والسبب لا القذف، فالذين رموها بالسوء قلبوا الأمر عن وجهه، فهو إفك قبيح، وكذب ظاهر، والعصبة: هم الجماعة من العشرة إلى الأربعين، والمراد بهم هنا: عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين، زيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح ابن أثاثة، وحمنة بنت جحش، ومن ساعدهم. وقيل: العصبة من الثلاثة إلى العشرة، وقيل: من عشرة إلى خمسة عشر. وأصلها في اللغة: الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض، وجملة {لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ} إن كانت خبراً لإنّ فظاهر، وإن كان الخبر عصبة كما تقدّم، فهي مستأنفة، خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم، وعائشة، وصفوان بن المعطل الذي قذف مع أمّ المؤمنين، وتسلية لهم، والشرّ ما زاد ضرّه على نفعه، والخير ما زاد نفعه على ضرّه، وأما الخير الذي لا شرّ فيه فهو الجنة، والشرّ الذي لا خير فيه فهو النار، ووجه كونه خيراً لهم أنه يحصل لهم به الثواب العظيم مع بيان براءة أمّ المؤمنين، وصيرورة قصتها هذه شرعاً عامًّا {لِكُلّ امرئ مّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم} أي: بسبب تكلمه بالإفك {والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قرأ الحسن، والزهري، وأبو رجاء، وحميد الأعرج، ويعقوب، وابن أبي علية، ومجاهد، وعمرة بنت عبد الرحمن بضمّ الكاف. قال الفرّاء: وهو وجه جيد، لأن العرب تقول: فلان تولى عظيم كذا وكذا أي: أكبره، وقرأ الباقون بكسرها. قيل: هما لغتان، وقيل: هو بالضم معظم الإفك، وبالكسر البداءة به، وقيل: هو بالكسر: الإثم. فالمعنى: إن الذي تولى معظم الإفك من العصبة له عذاب عظيم في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما.
واختلف في هذا الذي تولى كبره من عصبة الإفك من هو منهم؟ فقيل: هو عبد الله بن أبيّ، وقيل: هو حسان، والأوّل هو الصحيح.
وقد روى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة، وهم مسطح ابن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش. وقيل: جلد عبد الله بن أبيّ، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، ولم يجلد مسطحاً، لأنه لم يصرح بالقذف، ولكن كان يسمع ويشيع من غير تصريح. وقيل: لم يجلد أحداً منهم. قال القرطبي: المشهور من الأخبار، والمعروف عند العلماء: أن الذين حدّوا: حسان، ومسطح، وحمنة. ولم يسمع بحدّ لعبد الله بن أبيّ، ويؤيد هذا ما في سنن أبي داود عن عائشة، قالت: لما نزل عذري، قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدّهم، وسماهم: حسان، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش.
واختلفوا في وجه تركه صلى الله عليه وسلم لجلد عبد الله بن أبيّ، فقيل: لتوفير العذاب العظيم له في الآخرة، وحدّ من عداه ليكون ذلك تكفيراً لذنبهم كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحدود أنه قال: «إنها كفارة لمن أقيمت عليه» وقيل: ترك حدّه تألفاً لقومه، واحتراماً لابنه، فإنه كان من صالحي المؤمنين، وإطفاء لنائرة الفتنة، فقد كانت ظهرت مباديها من سعد بن عبادة ومن معه كما في صحيح مسلم.
ثم صرف سبحانه الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى المؤمنين بطريق الالتفات فقال: {لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً} {لولا} هذه هي التحضيضية تأكيداً للتوبيخ، والتقريع، ومبالغة في معاتبتهم أي: كان ينبغي للمؤمنين حين سمعوا مقالة أهل الإفك أن يقيسوا ذلك على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد فيهم، فهو في أمّ المؤمنين أبعد. قال الحسن: معنى {بأنفسهم}: بأهل دينهم، لأن المؤمنين كنفس واحدة ألا ترى إلى قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29]. قال الزجاج: ولذلك يقال للقوم الذين يقتل بعضهم بعضاً: إنهم يقتلون أنفسهم. قال المبرّد: ومثله قوله سبحانه: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54]. قال النحاس: {بأنفسهم}: بإخوانهم، فأوجب الله سبحانه على المسلمين إذا سمعوا رجلاً يقذف أحداً، ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه. قال العلماء: إن في الآية دليلاً على أن درجة الإيمان والعفاف لا يزيلها الخبر المحتمل وإن شاع {وَقَالُواْ هذا إِفْكٌ مُّبِينٌ} أي: قال المؤمنون عند سماع الإفك: هذا إفك ظاهر مكشوف.
وجملة {لَّوْلاَ جَاءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} من تمام ما يقوله المؤمنون أي وقالوا: هلا جاء الخائضون بأربعة شهداء يشهدون على ما قالوا {فَإِذَا لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فأولئك} أي: الخائضون في الإفك {عِندَ الله هُمُ الكاذبون} أي: في حكم الله تعالى هم الكاذبون الكاملون في الكذب {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى الدنيا والآخرة} هذا خطاب للسامعين، وفيه زجر عظيم {وَلَوْلاَ} هذه هي لامتناع الشيء لوجود غيره {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ} أي: بسبب ما خضتم فيه من حديث الإفك، يقال: أفاض في الحديث، واندفع وخاض.
والمعنى: لولا أني قضيت عليكم بالفضل في الدنيا بالنعم التي من جملتها الإمهال، والرحمة في الآخرة بالعفو، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. وقيل: المعنى لولا فضل الله عليكم لمسكم العذاب في الدنيا والآخرة معاً، ولكن برحمته ستر عليكم في الدنيا، ويرحم في الآخرة من أتاه تائباً.
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} الظرف منصوب بمسكم، أو بأفضتم، قرأ الجمهور: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} من التلقي، والأصل تتلقونه، فحذف إحدى التاءين. قال مقاتل، ومجاهد: المعنى يرويه بعضكم عن بعض. قال الكلبي: وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول: بلغني كذا، وكذا، ويتلقونه تلقياً. قال الزجاج: معناه يلقيه بعضكم إلى بعض. وقرأ محمد ابن السميفع بضم التاء، وسكون اللام، وضم القاف، من الإلقاء، ومعنى هذه القراءة واضح. وقرأ أبيّ وابن مسعود: {تتلقونه} من التلقي، وهي كقراءة الجمهور. وقرأ ابن عباس، وعائشة، وعيسى بن عمر، ويحيى بن يعمر، وزيد بن عليّ بفتح التاء، وكسر اللام، وضم القاف، وهذه القراءة مأخوذة من قول العرب، ولق يلق ولقاً: إذا كذب. قال ابن سيده: جاءوا بالمعتدي شاهداً على غير المعتدي. قال ابن عطية: وعندي أنه أراد يلقون فيه، فحذف حرف الجرّ، فاتصل الضمير. قال الخليل، وأبو عمرو: أصل الولق الإسراع، يقال: جاءت الإبل تلق أي: تسرع، ومنه قول الشاعر:
لما رأوا جيشاً عليهم قد طرق *** جاءوا بأسراب من الشام ولق
وقال الآخر:
جاءت به عيس من الشام تلق ***
قال أبو البقاء: أي: يسرعون فيه. قال ابن جرير: وهذه اللفظة أي: {تلقونه} على القراءة الأخيرة مأخوذة من الولق، وهو: الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في إثر عدد، وكلام في إثر كلام. وقرأ زيد بن أسلم، وأبو جعفر {تألقونه} بفتح التاء، وهمزة ساكنة، ولام مكسورة، وقاف مضمومة من الألق، وهو: الكذب، وقرأ يعقوب {تيلقونه} بكسر التاء من فوق بعدها ياء تحتية ساكنة، ولام مفتوحة، وقاف مضمومة، وهو: مضارع ولق بكسر اللام، ومعنى: {وَتَقُولُونَ بأفواهكم مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أن قولهم هذا مختصّ بالأفواه من غير أن يكون واقعاً في الخارج معتقداً في القلوب. وقيل: إن ذكر الأفواه للتأكيد كما في قوله: {يطير بجناحيه} [الأنعام: 38]، ونحوه، والضمير في {تحسبونه} راجع إلى الحديث الذي وقع الخوض فيه والإذاعة له {وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً} أي: شيئاً يسيراً لا يلحقكم فيه إثم، وجملة {وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ} في محل نصب على الحال أي: عظيم ذنبه وعقابه.
{وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا} هذا عتاب لجميع المؤمنين أي: هلا إذا سمعتم حديث الإفك قلتم تكذيباً للخائضين فيه المفترين له ما ينبغي لنا، ولا يمكننا أن نتكلم بهذا الحديث، ولا يصدر ذلك منا بوجه من الوجوه، ومعنى قوله: {سبحانك هذا بهتان عَظِيمٌ} التعجب من أولئك الذين جاءوا بالإفك، وأصله التنزيه لله سبحانه، ثم كثر حتى استعمل في كلّ متعجب منه. والبهتان هو: أن يقال في الإنسان ما ليس فيه أي: هذا كذب عظيم لكونه قيل في أمّ المؤمنين رضي الله عنها، وصدوره مستحيل شرعاً من مثلها. ثم وعظ سبحانه الذين خاضوا في الإفك فقال: {يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً} أي: ينصحكم الله، أو يحرّم عليكم، أو ينهاكم كراهة أن تعودوا، أو من أن تعودوا، أو في أن تعودوا لمثل هذا القذف مدّة حياتكم {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فإن الإيمان يقتضي عدم الوقوع في مثله ما دمتم، وفيه تهييج عظيم وتقريع بالغ {وَيُبَيّنُ الله لَكُمُ الآيات} في الأمر والنهي لتعملوا بذلك، وتتأدبوا بآداب الله، وتنزجروا عن الوقوع في محارمه {والله عَلِيمٌ} بما تبدونه وتخفونه {حَكِيمٌ} في تدبيراته لخلقه.
ثم هدّد سبحانه القاذفين، ومن أراد أن يتسامع الناس بعيوب المؤمنين، وذنوبهم فقال: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِى الذين ءامَنُواْ} أي: يحبون أن تفشو الفاحشة وتنتشر، من قولهم: شاع الشيء يشيع شيوعاً، وشيعاً، وشيعاناً: إذا ظهر وانتشر، والمراد بالذين آمنوا المحصنون العفيفون، أو كلّ من اتصف بصفة الإيمان، والفاحشة هي: فاحشة الزنا، أو القول السيء {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدنيا} بإقامة الحدّ عليهم {والآخرة} بعذاب النار {والله يَعْلَمُ} جميع المعلومات {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} إلاّ ما علمكم به وكشفه لكم، ومن جملة ما يعلمه الله عظم ذنب القذف، وعقوبة فاعله {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} هو تكرير لما تقدّم تذكيراً للمنة منه سبحانه على عباده بترك المعالجة لهم {وَأَنَّ الله رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} ومن رأفته بعباده أن لا يعاجلهم بذنوبهم، ومن رحمته لهم أن يتقدّم إليهم بمثل هذا الإعذار، والإنذار، وجملة: {وَأَنَّ الله رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} معطوفة على فضل الله، وجواب {لولا} محذوف لدلالة ما قبله عليه أي: لعاجلكم بالعقوبة.
{ياأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان} الخطوات جمع خطوة، وهي: ما بين القدمين، والخطوة بالفتح المصدر أي: لا تتبعوا مسالك الشيطان ومذاهبه، ولا تسلكوا طرائقه التي يدعوكم إليها. قرأ الجمهور {خطوات} بضم الخاء، والطاء، وقرأ عاصم، والأعمش بضم الخاء، وإسكان الطاء. {مَن يَتَّبِعُ خطوات الشيطان فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشاء والمنكر} قيل: جزاء الشرط محذوف أقيم مقامه ما هو علة له، كأنه قيل: فقد ارتكب الفحشاء والمنكر لأن دأبه أن يستمرّ آمراً لغيره بهما، والفحشاء: ما أفرط قبحه، والمنكر: ما ينكره الشرع، وضمير إنه للشيطان، وقيل: للشأن، والأولى أن يكون عائداً إلى من يتبع خطوات الشيطان، لأن من اتبع الشيطان صار مقتدياً به في الأمر بالفحشاء والمنكر {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} قد تقدّم بيانه، وجواب {لولا} هو قوله: {مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَداً} أي: لولا التفضل، والرحمة من الله ما طهر أحد منكم نفسه من دنسها ما دام حياً.
قرأ الجمهور {زَكَى} بالتخفيف، وقرأ الأعمش، وابن محيصن، وأبو جعفر بالتشديد أي: ما طهره الله.
وقال مقاتل: أي: ما صلح. والأولى تفسير زكى بالتطهر والتطهير، وهو: الذي ذكره ابن قتيبة. قال الكسائي: إن قوله: {ياأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان} معترض، وقوله: {مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَداً} جواب لقوله: أوّلاً، وثانياً، ولولا فضل الله. وقراءة التخفيف أرجح لقوله: {ولكن الله يُزَكّي مَن يَشَاء} أي: من عباده بالتفضل عليهم، والرحمة لهم {والله سَمِيعٌ} لما يقولونه {عَلِيمٌ} بجميع المعلومات، وفيه حثّ بالغ على الإخلاص، وتهييج عظيم لعباده التائبين، ووعيد شديد لمن يتبع الشيطان، ويحبّ أن تشيع الفاحشة في عباد الله المؤمنين، ولا يزجر نفسه بزواجر الله سبحانه.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وأهل السنن، وغيرهم حديث عائشة الطويل في سبب نزول هذه الآيات بألفاظٍ متعدّدة، وطرق مختلفة. حاصله: أن سبب النزول هو: ما وقع من أهل الإفك الذين تقدّم ذكرهم في شأن عائشة رضي الله عنها، وذلك أنها خرجت من هودجها تلتمس عقداً لها انقطع من جزع، فرحلوا، وهم يظنون أنها في هودجها، فرجعت، وقد ارتحل الجيش، والهودج معهم، فأقامت في ذلك المكان، ومرّ بها صفوان بن المعطل، وكان متأخراً عن الجيش، فأناخ راحلته، وحملها عليها؛ فلما رأى ذلك أهل الإفك قالوا ما قالوا، فبرأها الله مما قالوه. هذا حاصل القصة مع طولها، وتشعب أطرافها فلا نطول بذكر ذلك.
وأخرج عبد الرزاق، وأحمد، وعبد بن حميد، وأهل السنن الأربع، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن عائشة قالت: لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدّهم. قال الترمذي: هذا حديث حسن. ووقع عند أبي داود تسميتهم: حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس قال: الذين افتروا على عائشة عبد الله بن أبيّ بن سلول، ومسطح، وحسان، وحمنة بنت جحش.
وأخرج البخاري، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك، فقال: الذي تولى كبره منهم علىّ، فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم سمع عائشة تقول: الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبيّ، قال: فقال لي: فما كان جرمه؟ قلت: حدّثني شيخان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول: كان مسيئاً في أمري.
وقال يعقوب بن شيبة في مسنده: حدّثنا الحسن بن عليّ الحلواني، حدّثنا الشافعي، حدّثنا عمي قال: دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له: يا سليمان الذي تولى كبره من هو؟ قال: عبد الله بن أبيّ. قال: كذبت هو عليّ. قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال: يا ابن شهاب من الذي تولّى كبره؟ فقال: ابن أبيّ. قال: كذبت هو عليّ. قال: أنا أكذب؟ لا أبا لك، والله لو نادى منادٍ من السماء أن الله قد أحلّ الكذب ما كذبت، حدّثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة: أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ، وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن مسروق قال: دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال:
حصان رزان ما تزنّ بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
قالت: لكنك لست كذلك، قلت: تدعين مثل هذا يدخل عليك، وقد أنزل الله: {والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فقالت: وأيّ عذاب أشدّ من العمى؟.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر عن بعض الأنصار: أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما قالوا: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى وذلك الكذب، أكنت أنت فاعلة ذلك يا أمّ أيوب؟ قالت: لا والله، قال: فعائشة والله خير منك وأطيب، إنما هذا كذب وإفك باطل؛ فلما نزل القرآن ذكر الله من قال من الفاحشة ما قال من أهل الإفك. ثم قال: {لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هذا إِفْكٌ مُّبِينٌ} أي: كما قال أبو أيوب، وصاحبته.
وأخرج الواقدي، والحاكم، وابن عساكر عن أفلح مولى أبي أيوب: أن أمّ أيوب... فذكر نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد ابن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس: {يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً} قال: يحرّج الله عليكم.
وأخرج البخاري في الأدب، والبيهقي في شعب الإيمان، عن عليّ بن أبي طالب قال: القائل الفاحشة، والذي شيع بها في الإثم سواء.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَداً} قال: ما اهتدى أحد من الخلائق لشيء من الخير.

1 | 2 | 3 | 4